ثمّة كتابة نهاريّة قدرها الصباحات البائسة والنفوس شبه الطبيعيّة؛ كتابة هادئة، ومطمئنة، وسطحيّة الطروس، وناعمة الملامس، وذلك في مقابل كتابة نوكتيرونيّة تصنعها النفوس الاستثنائيّة داخل ورشة الدياميس المرعبة. كتابة صاخبة وقلقة وعميقة الأغوار، وناتئة المدارك. لنقل، على سبيل الاستعارة، إنّها محبرة شديدة السواد، نازفة من الروح اللاّمتآلفة مع أنظمة العالم المتكلّس، يستعين بها نبّاش لحود في مقابر الأبديّة، مثل محمود هدايت، كي يدوّن بيوغرافيا اللّيل، تلك الطالعة من مناماته الشخصيّة جداً، والحداثيّة تماماً والغرائبيّة بامتياز، المسكونة حدّ الطفاح بجماليات الفنّ وحدوساته المغايرة، والمضطرمة إلى درجة العصيان باختبارات الأثر الجميل وفتوحاته المغامرة.
من تضاريس أجساد زها حديد وعرة السّنن، إلى مخلوقات جياكوميتي العدميّة الناحلة كأشباح الجزر غير المسكونة، مروراً بنرد هاينر مولر الجهنميّ، وفداحات بومة الصادق هدايت، وتمزّقات حنجرة جاك بريل، وخرابات الجسد الإنسانيّ في أعالي برفورمانس جوزيف بويز. فها هنا، أقصد داخل أركيولوجيّا هذا الكتاب متعدّد الأصوات الكرنفاليّة والطبقات الرسوبيّة، لا عزاء ولا أمان للمقيمين المهادنين من أهل اليابسة، الرابضين بمنأى عن ارتحالات التخوم الشائكة، وبمنجاة من قفزات الحواف المهلكة. في بيوغرافيا اللّيل يستخدم محمود هدايت كلاً من ذائقته الغجريّة، وعينه الباطنيّة الثالثة، كما لو كانا مزواة مسّاح محترف، وبواسطتها يستجلي غوامض طوبوغرافيّا الفنون البصريّة والأدائيّة والكتابيّة غريبة الأطوار، ثمّ يحدد أبعاد السحر والحذق وجاذبيّته داخل طواياها.
Tentang Penulis
كاتب عراقي وباحث في حقل الجماليات والفلسفة، كتب النقد الأدبي والسينمائي والتعاليق الفلسفية، تميزت كتابته بالتجريب والانشغال في تأصيل الخرق الفكري كشرط أساسي في ممارسة عملية الكتابة، صدر له عدد من الأعمال منها: إنجيل لوميير- نصوص في الفكر السينمائي، وضد المسرح- كولاج منامة يانوس، وأنطلوجيا اليد، وغوغ- مسامرات خضير ميري.